عباس قبيسي يكتب عن : دور المحكمة الدولية في فرض العدالة وحلّ النزاعات والحفاظ على السلام العالمي!
كتب عباس قبيسي
في جريدة البناء
عندما لا تتقن المحاكم القرار بلغة الحقوق الأساسية فإنها عادة ما تتأثر بالأحداث دون المقدرة على التأثير فيها.
إنّ الهدف الأساسي لإنشاء المحاكم الدولية هو توفير وسيلة لمحاكمة الأفراد أو الكيانات أو الدول التي ارتكبت جرائم تجاوزت الحدود الوطنية، والهدف من هذه المحاكم تعزيز العدالة الدولية وتطبيق قوانين حقوق الإنسان وقوانين الحرب على الأفراد المتورّطين في جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية، وتسعى لتعزيز السلم والأمان العالميّين من خلال فرض العدالة والمساءلة على المرتكبين لهذه الجرائم.
ومن ضمن مهام محكمة العدل الدولية التي مركزها لاهاي، الفصل في النزاعات بين الدول من خلال توفير منصة لمحاكمة عادلة ومحايدة، وتلعب المحكمة الدولية دوراً محورياً حاسماً في الحفاظ على السلام وحلّ النزاعات سلمياً، ومنع الإفلات من العقاب. وهذا يعني أنّ الأفراد الذين يرتكبون جرائم خطيرة، مثل الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب، لا يمكنهم الهروب من العدالة لمجرد وجودهم في بلد آخر. ومن خلال ذلك، تعزز المحكمة سيادة القانون وترسل رسالة واضحة مفادها أنه لا أحد فوق القانون، وهذا بدوره يساعد في ردع المجرمين المحتملين ويساهم في إيجاد عالم أكثر عدلاً وأماناً، ويدعم مبادئ القانون الدولي والحفاظ على السلام بين الأمم، من خلال اللجوء إلى الوسائل القانونية بدل اللجوء إلى العنف، وهذا أمر بالغ الأهمية لأنّ النزاعات بين البلدان يمكن أن تنشأ لأسباب مختلفة، مثل النزاعات الإقليمية، أو الخلافات التجارية، أو انتهاكات حقوق الإنسان، وتضمن المحكمة محاسبة الدول على أيّ انتهاك لحقوق الإنسان ترتكب داخل أراضيها، علاوة على ذلك، تلعب المحكمة دوراً في حل النزاعات المتعلقة بالقانون الدولي، كتفسيرات المعاهدات أو الممارسات وغيرها.
ماذا عن قرار المحكمة الأخير في دعوى دولة جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني؟
حسب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، الفصل الثاني: اختصاص المحكمة (المادة 34)…
1 ـ الدول فقط هي التي يجوز لها أن تكون أطرافاً في القضايا المعروضة على المحكمة.
وبناءً عليه، عقدت جلسات الاستماع العامّة ليوميَن في قصر السلام في لاهاي وصدر الأسبوع الماضي قرار محكمة العدل الدولية حول طلب الإشارة بالتدابير المؤقتة الذي قدّمته جنوب أفريقيا في القضية المتعلقة بتطبيق إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة والمعاقبة عليها. وأكدت المحكمة أنّ 16 صوتاً من القضاة مقابل صوت واحد فقط يؤيدون إلزام «إسرائيل» بإتخاذ كلّ التدابير لمنع التحريض على ارتكاب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزة، مشيرة إلى أنه يجب على «إسرائيل» اتخاذ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع الإبادة الجماعية في القطاع. وأعلنت المحكمة أنها لن تتراجع عن النظر في قضية الإبادة الجماعية في «إسرائيل»، مؤكدة أنّ الحكم يفرض التزامات قانونية على «إسرائيل»، ويتوجب على كافة الدول الأعضاء الالتزام بقرارات المحكمة. كما أشارت إلى أنها على علم تامّ بالمأساة التي تشهدها غزة، وأدانت القتل المستمر في القطاع، معربة عن قلق بالغ إزاء استمرار الخسائر في الأرواح وتحوّل غزة إلى مكان للموت واليأس، وأن الفلسطينيين يواجهون تهديدات يومية. وأوضحت أنّ الشعب الفلسطيني يحظى بالحماية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، وأنّ سكان القطاع جزء أصيل من هذه الاتفاقية.
وفي مقارنة بسيطة تبيّن ازدواجية الأحكام والمعايير بالقرارات الصادرة عن رئيسة المحكمة القاضية جوان دونوغو في 16 آذار 2022 في دعوى الصراع الروسي الأوكراني، حيث قالت «يجب على روسيا أن تعلق فوراً العمليات العسكرية التي بدأتها في 24 شباط 2022 على أراضي أوكرانيا، وإنّ المحكمة تشعر بقلق عميق إزاء استخدام القوة الروسية الذي يثير مشاكل خطيرة جداً بالقانون الدولي». وفي الدعوى المقدمة من دولة جنوب أفريقيا المرفوعة ضدّ الكيان الصهيوني تقول القاضية جوان دونوغو «يجب على إسرائيل أن تتخذ التدابير في حدود سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض العلني على ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وعلى إسرائيل أن ترفع تقريراً إلى المحكمة بخصوص التدابير المؤقتة المفروضة خلال شهر».
إنّ القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية في دعوى جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني لم تكن على قدر الآمال والمسؤولية الملقاة على عاتقها، وقرارها لم يكن كافياً لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، إضافة إلى أنّ هذه القرارات لم تلزم العدو بوقف حربه الإرهابية الهمجية وأعمالها الحربية والقتالية فوراً ولم تلزمه حتى بإدخال المساعدات الطبية والغذائية والإنسانية إلى قطاع غزة ورفع الحصار عنه، مما يجعلها بلا أيّ قيمة فعلية تذكر! وهنا نسأل هل تحتاج محكمة العدل إلى المزيد من القتل الممنهج والتطهير العرقي والتهجير لتتأكد على أنّ حرب الإبادة الجماعية هي حقيقة وليست مجرد خيال أو ادّعاءات أوهام كاذبة، وأنّ من شأن قرار كهذا أن يعطي حافزاً إضافياً لكيان العدو لمواصلة القتل دون حساب، إضافة إلى ذلك، قامت بعض الدول وفي مقدّمتها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بتعليق مساهمتها المالية لوكالة الأونروا في انحياز واضح لحملة التحريض التي يروّج لها الاحتلال الإسرائيلي.
وأخيراً، ينبغي لمحكمة العدل الدولية أن تسعى إلى تحقيق المساواة بين الدول، بغضّ النظر عن حجمها أو قوتها، وأن تمنح كلّ دولة فرصةً متساوية للتعبير عن مخاوفها، وهذا يسهم في منع الدول الكبرى من فرض إرادتها على الدول الضعيفة، ويزيد من الشعور بالعدالة ويشجع على تقديم الحجج بناءً على الأدلة الدامغة والبراهين الثابتة والحقائق الراسخة، دون تأثرها بالمصالح المتحيّزة أو الضغوطات السياسية، ويجب أن تلعب المحكمة دوراً حيوياً في الحفاظ على النظام والعدالة في المجتمع الدولي، لأنّ الثقة باتت مفقوده منذ زمن بالسلوك المتعلق بالقانون الإنساني أو الحقوق الأساسية ولتقريب المسافة الكبيرة التي كُرّست بين النصوص والأحكام بحق شعب محاصر، يراكم غضباً على غضب.
«يجب أن يكون القانون مثل الموت الذي لا يستثني أحد» ـ مونتسكيو.