Javascript DHTML Drop Down Menu Powered by dhtml-menu-builder.com



::: الإمام موسى الصدر، لبنان ومواجهة الحرب الأهلية :::

أضيف بتاريخ: 28-08-2023

كتب الدكتور علي سيد في جريدة النهار :

آمن الإمام موسى الصدر بأن لبنان نموذجٌ حضاريٌ في التعايش بين الأديان والرسالات السماوية وأن تعدد الطوائف فيه نعمة إلهية وثروة وطنية يجب التمسك بها والحفاظ عليها.
كما نظر إلى لبنان كضرورة حضارية، ورسالة إلهيه، لخلق الحوار والتواصل بين أعضاء الجسم الإنساني الكبير، على مستوى العالم وليس على المستوى اللبناني فحسب، معتقداً بإمكانية أن يلعب هذا النموذج دوراً مميزاً في تلاقي الحضارات والثقافات العالمية. إضافة الى ذلك، إعتبر الإمام أن النموذج اللبناني في تعدد الطوائف والمذاهب والتعايش فيما بينها، يشكل التناقض التام مع النموذج القومي الإسرائيلي الصهيوني والعنصري، كمـا يشكل تحدياً كبيراً في إستمراريته و تطوره وخطراً فعلياً عليه، إنطلاقاً من موقع لبنان الجغرافي في قلب العالم العربي والإسلامي، وأهمية دوره كرسالة في التعايش الاسلامي ـ المسيحي، وما يتضمن من مساحات الحرية والديمقراطية ضمن نطاقه السياسي والدستوري، تمكنه من لعب دورٍ كبيرٍ في نشر هذه القيم الموجودة فيه على المستوى العربي والإسلامي والدولي، ما وضع لبنان في قلب الصراع العربي - الإسرائيلي وجعل منه خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية. كما أن الفكر الإسلامي النيِر والمنفتح الذي يحمله الإمام موسى الصدر، من خلال نظرته لدور رجل الدين في مجتمعه الواسع، وإيمانه برسالة لبنان "سأبقى إن شاء الله في خدمة لبنان، وفي صيانة هذا الوطن لأن هذا الوطن ليس ملكاً لأحد. الوطن للجميع، نموت ونحافظ على وطننا" .
مع نشوب الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975، حذَر الإمام الصدر من مخاطر هذه الفتنة الطائفية التي تؤدي إلى سقوط لبنان وتحجيم المقاومة الفلسطينية، موضحاً أن إسرائيل التي تدّعي حماية المسيحيين تشكل الخطر الأكبر عليهم.
وفي مواجهة هذا الوضع نشط الإمام الصدر بالتعاون مع رؤساء الطوائف الروحيين في لبنان لوأد هذه الفتنة، وتهدئة الحالة. بيد أنه لم يوفق في مسعاه، لأن الفتنة كانت أكبر من الأشخاص والوطن. فأعلن قرار الإعتصام في مسجد الصفا في العاملية، حتى تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية، مبيناً أن إعتصامه "هو ثورة ضد العنف والظلم والحرمان والتمييز الطائفي والتمزق الوطني" . غير أن نار الحرب إستعرت وتطور الصراع واتسعت أبعاده وتدفقت المساعدات العسكرية العربية والغربية والإسرائيلية على لبنان، حتى كادت أن تكون الحرب بين العرب على أرض لبنان بل غدا لبنان ساحة الحروب العربية بكل ما للكلمة من معنى.
ورأى الإمام الصدر بأنه قد أخذت تظهر في الأفق مخاطر تقسيم لبنان إلى دويلة عنصرية تصبح قاعدة للغرب، وإلى دويلات أخرى تسيطر على بعضها الأحزاب اليسارية. ويبقى قسم منه قطاع أمن وتصريف إنتاج لإسرائيل، يخلق مركزاً للنشاطات التجسسية الإسرائيلية ويقضي على مساعي المقاطعة العربية ونتيجة لذلك فإنه يساهم في إستقرار إسرائيل. وقد رفض سماحته التقسيم وتصدى له حيث قال:" إنني ملتزم بمقتضى إيماني بوطني وإيماني بديني ومذهبي أن أمنع التقسيم بقوة السلاح وأن لا أسكت على ذلك حتى لو استدعى حياتي وحياة غيري" .
وأكد الإمام الصدر أن الأخطار المنتظرة لا تقف عند حد التقسيم، بل كان من جملتها ضرب صيغة التعايش الإسلامي المسيحي في العالم العربي، وتحويل المقاومة الفلسطينية عن خط التحرير. وبمواجهة ذلك، دعا الإمام الصدر اللبنانيين لتأجيل خلافاتهم، لأن العدو لا يرحم احداً منهم، ولا يفرق بين مسلم ومسيحي، ونادى بصيغة العيش المشترك بين الطوائف اللبنانية، بصرف النظر عن إنتماءاتهم الدينية والمذهبية، مخاطباً إسرائيل :"يا إسرائيل إعلمي أننا قبلنا أمانة الله وأمانة الإنسان التي هي وحدتنا الوطنية الشاملة للمسيحيين والمسلمين .... وسوف نبقى متمسكين بتعايشنا.... ولا نسمح للفكر الصهيوني والنازي أو الفاشي أو العنصري أن ينمو في وطننا" . ومن أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، أعلن أن أي طلقة تطلق على القرى المسيحية: "إنما تطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي" . ودخل الكنائس والأديرة واعظاً، وحاور رجال الإكليروس المسيحي طارحاً شعاراته: "التعايش المسيحي المسلم ثروة يجب الحفاظ عليها" ، "وأن المحرومين هم طائفة واحدة، المسيحي المحروم والمسلم المحروم وكل إنسان محروم هو هدفنا" ، كما أرسى عدة مبادرات بهدف الإنفتاح على الطوائف المسيحية فكرياً وإجتماعياً وسياسياً، معتبراً أن الأديان سلسلة من الشرائع المترابطة المتممة لبعضها البعض إذ يقول: "كانت الأديان واحدة لأن البدء الذي هو الله واحد، والهدف الذي هو الإنسان واحد، والمصير الذي هو هذا الكون واحد، وعندما نسينا الهدف وإبتعدنا عن خدمة الإنسان نسينا الله وإبتعد عنا فأصبحنا فرقاً وطرائق قدداً وألقى بأسنا بيننا" . هدفه من وراء ذلك توليد أرضية مشتركة للعمل على دفع كيد إسرائيل ونصرة المعذبين والمحرومين من كل الطوائف لأن الحرمان لا يعرف طائفة معينة، بل هو داء كل الطوائف.
ومع إستمرار المحنة في لبنان، بذل الإمام الصدر جهوداً مكثفة لإيقاف المعارك، رافضاً العلمنة الشاملة التي تشرع الأحوال الشخصية "لما فيها من مساس بالشرع الإسلامي
ومن إنحراف ومناداة بنظام غير متناسب مع مجتمعنا المؤمن ومع واقع أمتنا وتـاريخنا وموقعنا" ، والإدارة المحلية لأنها "أمر بمنتهى الخطورة على محنة الوطن" . وقدم بديلاً عنها هو إحياء الإدارات الرسمية، ووافق على الوثيقة الدستورية كبرنامج حوار بين اللبنانيين، كما أصدر بيانات متعددة لمنع إنهيار الجيش.
ومن جهة ثانية، كان الإمام يرى أن الإصلاحات السياسية والإجتماعية، لا يمكن أن تنفذ بالسلاح، فالسلاح يجب أن يتوفر لقضايا المصير. وقد لعب سماحته دوراً بارزاً في عقد مؤتمري الرياض (من16 إلى 18/10/1976)، والقاهرة (25/10/1976)، اللذين وضعا حداً للغياب العربي عن المحنة اللبنانية.
وأكد الإمام الصدر على ضرورة بقاء الوطن: " فالوطن يجب أن يبقى، ولا يحل مكان الوطن شئ وإن الإنسان لا معنى لوجوده في هذا العصر دون وطن" . مبيناً أنه "لا سلام في لبنان من دون سلام جنوبه" ، وهدد بإستخدام مختلف الوسائل لتحقيق مطالب الجنوب في مواجهة الإعتداءات الإسرائيلية.
وكان يردد دائماً: "إن الطريق للمستقبل يمر عبر الوفاق السياسي والمصلحة الوطنية والحوار المباشر بعيداً عن أسلوب النفاق السياسي المتبادل الذي كان مدرسة السياسة اللبنانية مع الأطراف والفئات والشخصيات ومن ثم تلخيص هذه النقاط التي تشكل تطويراً للوطن وصيانة له أمام الأخطار التي مرت أو تلك التي لم تمر ثم تطرح من خلال إستفتاء وطني شامل، فتصبح القرارات بمنزلة الدستور وأكثر منه قوةً."
وأما الحل في لبنان رغم تناقضاته، فهو موجود في طموح أبنائه والذي يفوق التصور أحياناً، وإذا وجد الحل ووضع في خطة واضحة وصريحة، فوعى هذا الشعب العظيم لمصلحته وطموحه واستقراره يحمل الجميع على تخطي الصعاب والتعايش بأمان وسلام وإطمئنان.
ويضيف الإمام: "نعلم أن المشكلة التي تواجهنا كبيرة وتمتد جذورها التاريخية والإجتماعية والسياسية إلى ربع قرن مضى وأكثر ... ندرك حجمها لكن نحن نؤمن بأن الله كريم وسوف يساعد المخلصين في هذا الوطن ولن نيأس ... وسنبقى نعمل" . وبصورة عامة ومن خلال قراءة سريعة لسيرة وفكر الإمام الصدر، يتبدى لنا أن منهجه إتسم بالواقعية العملية دون أن يغرق في أهداف خيالية تكون بعيدة عن آمال وأعراف وتقاليد الناس، ما أحوجنا إليه.

 




New Page 1